بأي حال تعـود؟!
خيام غـزة.. رمضـان بنكـهة الـوجع!
في خيام غزة تبدلت صورة رمضان
بفرح الدنيا تنادي "سجى" على إخوتها الصغار، تهرول بصحبتهم إلى أعلى السطح، وهناك تبدأ حناجرهم في ترديد صيحات التكبير والتهليل بنبرات تشع سرورا، وحين تعانق أياديهم "الفانوس" ترتفع الضحكات عاليا عازفين أجمل الألحان لضيفهم العزيز.
اليوم ورمضان يطرق أبواب غزة من جديد ارتجفت ذاكرة "سجى عبد ربه" ذات الأعوام التسعة، ومن عيونها تساقطت دموع الحزن على صورة تبدلت تفاصيلها وتغير اسمها.
تجول ببصرها الدامع على أرجاء خيمة متواضعة -احتضنتها هي وعائلتها المكونة من 11 فردا- تغمض عيونها بألم فتبكي صورا ذاب نورها بين الأنقاض، تتمنى لو أن بإمكانها القفز على الدرجات والهرولة نحو السطح، وإعادة التقاط المشهد مرة أخرى، غير أن خرابا هائلا من حولها ذكرها بوجع كبير سيشاركها طعمه آلاف القابعين في خيام انتشرت على طول شمال وشرق قطاع غزة.
وتستقبل المدينة المحاصرة أول رمضان لها بعد حرب بشعة شنتها إسرائيل ما بين 27 ديسمبر و18 يناير الماضيين، وأسفرت عن استشهاد نحو 1420 فلسطينيا، وجرح أكثر من 5450 آخرين، وتدمير نحو 16 ألف منزل، وتشريد 35 ألف أسرة؛ لتصبح الخيام مقرها الدائم بكل ما تحتويه من غربة وقسوة.
لن أصوم!!
على باب الخيمة بدأت "سجى" تعيد شريط الذاكرة، وكلما استوقفتها الصور الغائبة ينهمر دمعها بغزارة، أمها تنظر إليها بعيون حائرة لا تدري كيف تقنعها بالنسيان ولو مؤقتا، تتنهد الصغيرة طويلا وبصوت طفولي تعتذر نبراته لـ"رمضان" تساءلت: "أين بيتنا الجميل المكون من ثلاثة طوابق؟ أريد بيتنا.. لا أريد أن أقضي شهر رمضان في هذا المكان".
وعلى مقربة منها هدد شقيقها خالد ابن الثمانية أعوام بالإفطار وعدم الإذعان لتشجيع والديه بالصيام وإغرائه بالمكافئات.
تقول أمه لـ"إسلام أون لاين.نت": "في العام الماضي صام الشهر كاملا ولم يفطر يوما، أما هذا العام فقد أخذ يبكي وهددنا بأنه سيفطر".. تشير بيدها إلى ما حولها من خيام تراصت بجوار بعضها البعض، واستدركت: "الحر هنا لا يطاق، في العام الماضي كان ينام في غرفته المطلة على البحر، وعلى الإفطار كان ينعم بمائدة شهية، اليوم لا كرسي مريح يجلس عليه، ولا مكان للأطعمة التي يحبها.. حتى الماء المثلج لن يحصل عليه؛ فكل أدوات المطبخ كبقية البيت أضحت رمادا".
وتعترف مرام السلطان صاحبة الـ"14" ربيعا أن قدوم أول رمضان بعد العدوان الإسرائيلي نكأ جراحهم، وفتح باب الألم على مصراعيه، يرتجف جسدها تماما كارتجاف كلماتها وهي تقول: "لا توجد لغة بإمكانها أن تصف حجم الحزن الذي يعترينا؛ فقدنا بيوتنا، وتشردنا في خيام لا تقينا حر الصيف ولا برد الشتاء.. المأساة الآن تكبر فليس باستطاعتنا إعداد مائدة نتباهى بألوانها وأصنافها المختلفة".
وبعد أكثر من نصف عام على مرور الحرب القاسية لم تبرح الخيام مكانها، وبقي المشهد ماثلا بمرارته أمام رفض إسرائيل فتح المعابر لإدخال مواد الإعمار إلى غزة وتمكين من تهدمت بيوتهم من البدء في حياتهم من جديد.
أمي.. أين المطبخ؟!
في مخيم الثبات الواقع شمال قطاع غزة ارتفع نحيب الطفل صهيب العطار (11 عاما) وانسكبت دموعه تبلل خده عندما اكتشف أن إعداد المقلوبة (الطبق الشهير في غزة والمكون من أرز ولحم وخضروات) انتقل إلى خانة الأحلام والأمنيات المستحيلة.
تخبره والدته أن عينا واحدة للغاز المتهالك لا يمكنها أن تتكفل بصناعة ما يشتهي، وأن عليه الانتظار طويلا، يبكي صهيب ويصرخ بما يملك من غضب: "أين مطبخنا؟ لماذا دمره الاحتلال وقصفه؟!".
ويضيع استفهام صهيب بين ركام منازل لطالما احتضنت أحلام أصحابها وتفننت في تحويلها إلى واقع، ومن خيمة إلى أخرى كانت علامات دهشة الحزن تكبر وتزداد.
وعلى مساحة لا تتجاوز ثلاثة أمتار جلست أم تامر تحدث جارتها عن كيفية إعداد طعام الإفطار، كما كانت تفعل في كل رمضان، لكنها هذا العام ألقت على مسامعهم حروفا بلغة جديدة لم تألفها آذانهم بعد.
تقول أم تامر لإسلام أون لاين.نت وهي تحاول البحث عن ركن فارغ في خيمتها يمكنها من وضع غاز صغير: "هذا هو مطبخنا، وها هو بيتنا.. أخبرت جاراتي ألا وجبات لأزواجهن وأطفالهن هذا العام سوى العدس أو المعكرونة.. ليس بإمكاننا إعداد شيء آخر".
بأي حال؟!
وبأسى ترتسم معالمه على وجه الحاج "أبو رأفت شبير" يقول: "جاء رمضان وقد فقدنا بيوتنا وما تضمه من دفء وسكينة.. هذه المرة نقولها بمرارة حقيقية: بأي حال جئت يا رمضان؟!".
وفي هذا العام سيعتذر أصحاب الخيام بأسف لذويهم وأحبتهم عن إعداد العزائم والولائم، وسينسى هؤلاء أجمل عاداتهم الرمضانية، وستكتفي الزوجات بتجهيز طبق وحيد لن يسد رمق جوعهم.
وإن كان غياب البيوت الواسعة والمطابخ الدافئة قد أفقد أصحاب الخيام القدرة على التعبير، فإن حروفهم بدت صامتة أمام حصار خانق انضمت لسعاته إلى ما خلفته الحرب من حروق.
"أبو نادر صبح" (45 عاما) لا يجد في جيبه نقودا تكفي لشراء فانوس رمضان لأطفاله الأربعة، ولا يعثر أبو نادر -العاطل عن العمل- عن خضروات بثمن زهيد يقدمها لزوجته كي تقوم بإعداد مائدة بسيطة.
ويثقل كاهل أصحاب البيوت المدمرة الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية مما حذا بالكثيرين إلى وصف عشرات المستلزمات بـ"الترف" غير المرغوب فيه.
وتعيش غزة حصارا قاسيا للعام الثالث على التوالي تفرضه إسرائيل مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانعدام فرص العمل.
وأمام شهر تبكي فيه الذاكرة تفاصيلها الجميلة، دعت مؤسسات أهلية وصحية بغزة إلى تقديم الدعم الكامل لمتضرري الحرب، ومساندتهم نفسيا ومعنويا، والإسهام الجاد في التخفيف عن آلامهم.
خيام غـزة.. رمضـان بنكـهة الـوجع!
في خيام غزة تبدلت صورة رمضان
بفرح الدنيا تنادي "سجى" على إخوتها الصغار، تهرول بصحبتهم إلى أعلى السطح، وهناك تبدأ حناجرهم في ترديد صيحات التكبير والتهليل بنبرات تشع سرورا، وحين تعانق أياديهم "الفانوس" ترتفع الضحكات عاليا عازفين أجمل الألحان لضيفهم العزيز.
اليوم ورمضان يطرق أبواب غزة من جديد ارتجفت ذاكرة "سجى عبد ربه" ذات الأعوام التسعة، ومن عيونها تساقطت دموع الحزن على صورة تبدلت تفاصيلها وتغير اسمها.
تجول ببصرها الدامع على أرجاء خيمة متواضعة -احتضنتها هي وعائلتها المكونة من 11 فردا- تغمض عيونها بألم فتبكي صورا ذاب نورها بين الأنقاض، تتمنى لو أن بإمكانها القفز على الدرجات والهرولة نحو السطح، وإعادة التقاط المشهد مرة أخرى، غير أن خرابا هائلا من حولها ذكرها بوجع كبير سيشاركها طعمه آلاف القابعين في خيام انتشرت على طول شمال وشرق قطاع غزة.
وتستقبل المدينة المحاصرة أول رمضان لها بعد حرب بشعة شنتها إسرائيل ما بين 27 ديسمبر و18 يناير الماضيين، وأسفرت عن استشهاد نحو 1420 فلسطينيا، وجرح أكثر من 5450 آخرين، وتدمير نحو 16 ألف منزل، وتشريد 35 ألف أسرة؛ لتصبح الخيام مقرها الدائم بكل ما تحتويه من غربة وقسوة.
لن أصوم!!
على باب الخيمة بدأت "سجى" تعيد شريط الذاكرة، وكلما استوقفتها الصور الغائبة ينهمر دمعها بغزارة، أمها تنظر إليها بعيون حائرة لا تدري كيف تقنعها بالنسيان ولو مؤقتا، تتنهد الصغيرة طويلا وبصوت طفولي تعتذر نبراته لـ"رمضان" تساءلت: "أين بيتنا الجميل المكون من ثلاثة طوابق؟ أريد بيتنا.. لا أريد أن أقضي شهر رمضان في هذا المكان".
وعلى مقربة منها هدد شقيقها خالد ابن الثمانية أعوام بالإفطار وعدم الإذعان لتشجيع والديه بالصيام وإغرائه بالمكافئات.
تقول أمه لـ"إسلام أون لاين.نت": "في العام الماضي صام الشهر كاملا ولم يفطر يوما، أما هذا العام فقد أخذ يبكي وهددنا بأنه سيفطر".. تشير بيدها إلى ما حولها من خيام تراصت بجوار بعضها البعض، واستدركت: "الحر هنا لا يطاق، في العام الماضي كان ينام في غرفته المطلة على البحر، وعلى الإفطار كان ينعم بمائدة شهية، اليوم لا كرسي مريح يجلس عليه، ولا مكان للأطعمة التي يحبها.. حتى الماء المثلج لن يحصل عليه؛ فكل أدوات المطبخ كبقية البيت أضحت رمادا".
وتعترف مرام السلطان صاحبة الـ"14" ربيعا أن قدوم أول رمضان بعد العدوان الإسرائيلي نكأ جراحهم، وفتح باب الألم على مصراعيه، يرتجف جسدها تماما كارتجاف كلماتها وهي تقول: "لا توجد لغة بإمكانها أن تصف حجم الحزن الذي يعترينا؛ فقدنا بيوتنا، وتشردنا في خيام لا تقينا حر الصيف ولا برد الشتاء.. المأساة الآن تكبر فليس باستطاعتنا إعداد مائدة نتباهى بألوانها وأصنافها المختلفة".
وبعد أكثر من نصف عام على مرور الحرب القاسية لم تبرح الخيام مكانها، وبقي المشهد ماثلا بمرارته أمام رفض إسرائيل فتح المعابر لإدخال مواد الإعمار إلى غزة وتمكين من تهدمت بيوتهم من البدء في حياتهم من جديد.
أمي.. أين المطبخ؟!
في مخيم الثبات الواقع شمال قطاع غزة ارتفع نحيب الطفل صهيب العطار (11 عاما) وانسكبت دموعه تبلل خده عندما اكتشف أن إعداد المقلوبة (الطبق الشهير في غزة والمكون من أرز ولحم وخضروات) انتقل إلى خانة الأحلام والأمنيات المستحيلة.
تخبره والدته أن عينا واحدة للغاز المتهالك لا يمكنها أن تتكفل بصناعة ما يشتهي، وأن عليه الانتظار طويلا، يبكي صهيب ويصرخ بما يملك من غضب: "أين مطبخنا؟ لماذا دمره الاحتلال وقصفه؟!".
ويضيع استفهام صهيب بين ركام منازل لطالما احتضنت أحلام أصحابها وتفننت في تحويلها إلى واقع، ومن خيمة إلى أخرى كانت علامات دهشة الحزن تكبر وتزداد.
وعلى مساحة لا تتجاوز ثلاثة أمتار جلست أم تامر تحدث جارتها عن كيفية إعداد طعام الإفطار، كما كانت تفعل في كل رمضان، لكنها هذا العام ألقت على مسامعهم حروفا بلغة جديدة لم تألفها آذانهم بعد.
تقول أم تامر لإسلام أون لاين.نت وهي تحاول البحث عن ركن فارغ في خيمتها يمكنها من وضع غاز صغير: "هذا هو مطبخنا، وها هو بيتنا.. أخبرت جاراتي ألا وجبات لأزواجهن وأطفالهن هذا العام سوى العدس أو المعكرونة.. ليس بإمكاننا إعداد شيء آخر".
بأي حال؟!
وبأسى ترتسم معالمه على وجه الحاج "أبو رأفت شبير" يقول: "جاء رمضان وقد فقدنا بيوتنا وما تضمه من دفء وسكينة.. هذه المرة نقولها بمرارة حقيقية: بأي حال جئت يا رمضان؟!".
وفي هذا العام سيعتذر أصحاب الخيام بأسف لذويهم وأحبتهم عن إعداد العزائم والولائم، وسينسى هؤلاء أجمل عاداتهم الرمضانية، وستكتفي الزوجات بتجهيز طبق وحيد لن يسد رمق جوعهم.
وإن كان غياب البيوت الواسعة والمطابخ الدافئة قد أفقد أصحاب الخيام القدرة على التعبير، فإن حروفهم بدت صامتة أمام حصار خانق انضمت لسعاته إلى ما خلفته الحرب من حروق.
"أبو نادر صبح" (45 عاما) لا يجد في جيبه نقودا تكفي لشراء فانوس رمضان لأطفاله الأربعة، ولا يعثر أبو نادر -العاطل عن العمل- عن خضروات بثمن زهيد يقدمها لزوجته كي تقوم بإعداد مائدة بسيطة.
ويثقل كاهل أصحاب البيوت المدمرة الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية مما حذا بالكثيرين إلى وصف عشرات المستلزمات بـ"الترف" غير المرغوب فيه.
وتعيش غزة حصارا قاسيا للعام الثالث على التوالي تفرضه إسرائيل مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانعدام فرص العمل.
وأمام شهر تبكي فيه الذاكرة تفاصيلها الجميلة، دعت مؤسسات أهلية وصحية بغزة إلى تقديم الدعم الكامل لمتضرري الحرب، ومساندتهم نفسيا ومعنويا، والإسهام الجاد في التخفيف عن آلامهم.